رفاعة الطهطاوي .. بين التعريف والتزييف

رفاعة الطهطاوي

بقلم ..احمد عدلي تمام
علي الجهة الشرقية من نهر النيل ، ومن أمام جامعة سوهاج يقف تمثال رفاعة الطهطاوي شامخا يحكي للأبناء ما صنعه الآباء ، وفي الجهة الآخرى للنيل تقع مكتبة رفاعة الطهطاوي بمخطوطاتها العتيقة التي خطّها الشيخ بيده لتخبر السائرين بما تحويه بداخلها من كنوز ، وتحكي حكاية صاحب المكتبة الذي قاد نهضة عملية جعلت البلاد تستيقظ من سُباتها العميق .. إنه الجد رفاعة رافع الطهطاوي .

نشأة رفاعة الطهطاوي :

ولد رفاعة الطهطاوي في مدينة طهطا ورحل منها إلي القاهرة لينهل من العلم في الأزهر الشريف وهناك حصل علي درجة العالمية وبدأ بالتدريس داخل الأزهر .
في عام 1826 أرسلت مصر أكبر بعثة علمية إلي فرنسا لدراسة العلوم الأوروبية وخرج الطهطاوي مع البعثة أنذاك بصفته واعظا ، لكن لحبه للعلوم الغربية أجاد الفرنسية إجادة تامة في وقت قياسي ، وكان حبه للعلوم الغربية نظرا لاعتقاده أنها السبيل لانتشال البلاد من وحل الجهل والخرافات. وبعد تعلمه الفرنسية سلك طريق الترجمة ومكنته إجادة اللغة العربية من التحول إلي مترجم فذ عكف علي ترجمة المفيد من كتب العلوم والفنون والآداب .
عاد رفاعة إلي مصر وانشأ مدرسة الترجمة والتي كان هدفه الأسمي منها “إيصال النفع إلي الوطن وتقليل التغرب في بلاد أوروبا”
بعد تولي الخديو عباس الأول مقاليد الحكم في البلاد ، نُفِي رفاعة إلي السودان ، وعاد إلي مصر بعد وفاة الخديو عباس وتولي الخديو سعيد زمام الأمور .. ونفي رفاعة كان له عدة أسباب أبرزها تبنّيه فكرا إصلاحيا يرفض التبعية ويرى ضرورة الاستقلال عن الدولة العثمانية والاعتماد علي العنصر المصري في بناء النهضة المصرية الحديثة وهذا الفكر كان مناقضا لفكر الخديو عباس الذي فضّل إبعاده عن الساحة .

لمحة عن فكر رفاعة الطهطاوي:

كان فكر الطهطاوي منصبّا علي النهوض بالبلاد في شتى المجالات ولهذا ترجم في جميع التخصصات ، بل كان يمزج أحيانا بين الترجمة والتأليف للرد على بعض الافكار المغلوطة والإتهامات التي يرمي بها الكاتب أهل الإسلام فكان يترجم ويرد الشبهات في آن واحد ، فرغم انبهاره بالتمدن والحضارة الغربية لم يغفل عن سلبيات الغرب ، بل انتقدها بنظرة فاحصة محايدة . فهو لم يكن -كما يزعم بعض الغلاة- مولعا بجميع مناحي الحياة في الغرب ولا واقعا في الهوى الباريسي حتي النخاع ، بل استخلص من الحياة في المجتمع الباريسي ما يؤسس لنهضة حقيقية في مصر ، متجنبا ، بل وناقدا لكل ما هو شاذ ومخالف .. وبهذا يكون قد كوّن منهجا عمليا لإصلاح الشرق وإحداث نهضة فكرية ثقافية شاملة خالية من الأعراف الأوروبية المخالفة لعادات ومعتقدات الشرق ، فقد كان الطهطاوي دائم التاكيد علي ضرورة التدين كسبيل من سبل الاصلاح، كما أن الاصلاح عند الطهطاوي اتسم بالتطبيق علي أرض الواقع علي عكس الكثير من المشروعات الفكرية التي لم تجد السبيل للخروج من بين ثنايا الكتب وهذا ما لمسناه في جهوده لإنشاء مدرسة الألسن وغيرها . وقد سار علي نهجه أئمة الإصلاح في العصر الحديث السيد جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده .

شبهات حول رفاعة :

من أكثر الشبهات التي يتخذها الغلاة كذريعة لنقد رفاعة هو ترجمته ، ترجمته للدستور الفرنسي وما تبعها من تسلل للعلمانية إلي بلاد الشرق علي يدي الشيخ الأزهري المفتون بالغرب .. لكن الناظر بإنصاف لترجمته تلك يري أنها عرض للعلاقة بين الحاكم والمحكوم القائمة علي العدل المجتمعي .. لكن رغم الترجمة ، أكد رفاعة علي مخالفة الدستور الفرنسي لكثير من أمور الكتاب والسنة ، وأن تلك الترجمة المقصود منها تحقيق العدل المجتمعي الذي أفتقدته الأمة أنذاك نظرا تغلغل الطبقية والفساد داخل المجتمع في تلك الفترة .

أما عن دعوته لنشر الاختلاط و التبرج ، فقد نادى رفاعة كثيرا إلي ضرورة الحجاب ومنع الإختلاط وهذه الدعوات منافية لما يزعمه البعض ، لأن رفاعة يرى أن المرأة “متي خلعت ثوب الحياء فكأنها تنازلت عن سلوك سبيل العفاف والصون” كما “يجب علي المرأة الاحتجاب من الأجانب ويحرم علي الرجل النظر إلي المرأة الأجنبية ويحرم أن يخلو رجل بأجنبية” مع استثناء حالات شرعية معينة وكل كلامه كان مستندا علي أحكام القرآن والسنة . فوصف رفاعة لمظهر المرأة الفرنسية وما في المجتمع الباريسي من اختلاط لا يمكن الاستدلال به علي كونه دعوة من رفاعة إلي التبرج والاختلاط ، فكتاب ” تخليص الإبريز” لا يعدو كونه أحد كتب الرحلات الذي يصف فيه الكاتب أحوال البلدان و عادات البشر و التي بالطبع تختلف عن عادات قومه وأحوال بلاده .

المصادر: الأعمال الكاملة لرفاعة رافع الطهطاوي ، دراسة وتحقيق د. محمد عمارة

Related posts

Leave a Comment