الفرحة تغمرني تتسامر وتتقافز مع فلذتي كبدي “أحمد” و”سارة” . طفلان جميلان لهما ابتسامة عذبة ، كان زوجي زميلاً لي في الجامعة يكبرني بعامين وأثمرت صداقتنا زواجاً ظل الحديث الكلية لفترة طويلة .. نتبادل نظرات الإعجاب بين الحين والآخر . كنت أحدق في عينيه البراقتين كان وسيماً جذاباًًًًًً تهفو إليه كل نظرات الإعجاب و الثناء من زميلاتي – كنت أتساءل – ما هو سر انجذابه وإعجابه بي رغم كوني ذات ملامح عادية ؟ .ذات مرة سألته في شقاوة بالغة : أتحبني؟ … هرب بنظراته بعيداً سمعت ضحكته القصيرة … حدق في وجهي قائلاً: أحبك بكل جوارحي … غمرتني السعادة وأنا أتلقي هذه الإجابة والكلمات الرقيقة التي انسابت من شفتيه . كانت أسعد فترات حياتي … كان أبي وأمي سعيدين بهذه الزيجة . أبي صديق لي . أعتبره مثالاً للأبوة الحانية . لم يفرض علي الزواج فأنا مقتنعة به . كان أبي رجلاً منتظماً في عمله رئيساً في إحدي الشركات الحكومية . له سمعة طيبة . الكل يحبه ويقدره ، وبعد خروجه علي المعاش ظل يدخن سيجارة بين الحين والآخر حين ينتابه الأرق … فقد تأجل صرف المعاش لفترة طويلة عندما كان يصرف المعاش كانت أمي بعد أن يوقع – تدقق النظر في الدفتر فقد يخطيء ويوقع في مكان آخر … وهذا هو اليوم الوحيد ، فكل شهر يخرجان سوياً لصرف المعاش في ذلك اليوم أمي تحاول أن تكثر من وضع الكحل بعينيها .. ثم تلحق به . وهو يهبط السلم منحنياً إليها – وعندما يخرجان إلي الشارع يبعد ذراعه عنها ويسيران متجاورين إلي البنك لصرف المعاش ..كان حبي لأختي الصغيرة ” نورهان” يتساوي مع حبي الجارف “لأحمد” و”سارة” . فاليوم عيد ميلاد أحمد الثاني .. أغرقني الصمت سلمت نفسي له قليلاً . وفجأة بعد طرق الباب بعنف وإلحاح أيقظني من حلمي الجميل . كل شيء اختلط … النور والظلمة … الأمل واليأس … أحسست أن مستقبلي سيضيع … سمعت أختي الصغيرة تتحدث بفرحة مع أمي قائلة : العريس وصل شاهدت من غرفة أمي المواربة يديها المرتعشتين وهي تتلو الآيات الربانية وتدعو لي قائلة ربنا يجعله من ” قسمتك ونصيبك ” … اهتز كياني كله . لم أعد أري فرحة لقدومه … لكوني قد تجاوزت الأربعين فمن المؤكد أن العريس مثل سابقيه يتقارب في السن مع أبي .. وظل يراودني إحساس القهر من الألم من نظرة الناس والمجتمع للعانس والمطلقة … مرت السنون دون أن أدري كيف ! .. كأنني كنت في منجم أو متحف لتماثيل الشمع ! .. أنتظر العريس في غرفتي كجندي في خندق ، أعصابي تحترق . استقبلهم أبي فرحاً .. كانا يجلسان علي مقعدين متقابلين لمحت من غرفتي العريس متهدل الوجه يلبس سترة واسعة تفوح منها رائحة النفتالين .. يضع منديلا حول رقبة القميص كما اعتاد منذ أن كان ناظراً بالسكك الحديدية كما أخبرتني أمي . يحمل في يده منشه يطرد بها الذباب في شكل عصبي ومستفز…. دخلت أمي إلي غرفتي فرحة حاولت أن ألملم شتات نفسي … أحرك سلسلة في الهواء ، أطقطق أطرافي . أنظر إلي أظافري إلي شعر يدي كان يعتريني تشويش ممزوج بغضب – لست موافقة – حاصرتني أمي بنظراتها قائلة: أشاهدتي نفسك في المرآة ! …
لقد غسلت وجهي من المساحيق والألوان … بللت رأسي حتي أفيق من الصداع الذي يدق رأسي بقسوة قلت لها : أهنت عليكم .. نفد صبر أمي وقالت بغضب أنت اعتدت الجلوس معي في البلكونة كل مساء .أنا “يا ابنتي” كبرت وأبوك رجل مسن وكنت آمل أن تتزوجي بابن الحلال .. “أنت حرة” ولَت مسرعة خارج الغرفة . نظرت في المرآة كنت أحسب نفسي في امتحان وأول الناجحين ولكني لم أجد اسمي بالمرة .. أحاول أن أحتضن أحد صدغيٌ وجهي فقد قسمه الزمن إلي مناطق وتشقق إلي أخاديد … وجهي أصبح واهناً . الوقت يوشك علي الرحيل وسجادة الزمان قد انطويت .. تمددتُ علي السرير انتظر البكاء الذي أبي أن ينقر خديا رغم محاولاتي لاستجدائه .. بعد انصراف العريس ..
وجدت أبي غاضبا في الصالة يطلق سحابات الدخان من فمه بشكل عنيف كأنها بخار يغلي فتح غطائه فجأة – صررت أسناني غيظاً .. لقد فوجئت به يهجم علي في عنف .. لم أتملكه .. لا أستطيع الدفاع عن نفسي.. لم أتمكن من اللحاق به لقد غادر سريعاً .. أنه “قطار الزواج” ها هو اليأس يصب علي دمي وروحي ثقلاً .. يطفو علي سطح عقلي سؤال أين كنت في هذه السنين ؟ تكتسحني موجه غضب وقلق وحنين إليها .
ا.د وجيه جرجس شاعر ووقاص وناقد مسرحي