يوسف السباعي

متابعة .. زهراء محمد رضا
ماذا سيكون تأثير الموت عليّ، وعلى الآخرين؟ لا شيء، ستنشر الصحافة نبأ موتي كخبر مثير، ليس لأني مت، بل لأن موتي سيقترن بحادثة مثيرة .. 

هكذا تنبأ الأديب المصري يوسف السباعي بظروف وملابسات وفاته، في روايته طائر بين محيطين، عام 1971، وهو من كان دائم الحديث عن الموت وكأنه ضيف يتعجَّل قدومه. 

ولم يكن يتوقع، الكاتب الذي لطالما سخَّر قلمه للدفاع عن القضية الفلسطينية، أن تناله يد الغدر على يد اثنين من أعضاء منظمة أبو نضال، تلك المنظمة الفلسطينية التي كان يرأسها صبري البنا، المنشقُّ عن منظمة التحرير الفلسطينية، ومؤسس حركة “فتح.. المجلس الثوري”، والذي نال نفس الجزاء برصاصة في الرأس في شقته ببغداد في 16 أغسطس/آب عام 2002. 

فارس الرومانسية .. بين أبو الريش وجنينة ناميش 

في 10 يونيو/حزيران 1917، وُلد الأديب والصحفي المصري يوسف السباعي، بحي الدرب الأحمر بالقاهرة، وكانت أسرته دائمة التنقل والترحال من حي إلى آخر، وكلما انتقل إلى مكان ازداد تعلَّق به وأحَبه، وظهر ذلك جلياً في كتاباته، حيث يقول في مستهَّل روايته بين أبو الريش وجنينة ناميش: “فبينما نجد أن التجوال في جنينة ناميش هو الدافع إلى الكتابة .. وأن القصة ذاتها ليست سوى برشامة أضع فيها الجولة .. نجِد في أحيان أخرى أن فكرة القصة قد تكون حاضرة .. وأني لا أكاد أجلس إلى الكتابة لإبرازها إلى حيز الوجود باحثاً لها عن مكان وزمان أجعلها فيه وأُجري حوادثها به حتى أجد جنينة ناميش قد أطلَّت من رأسي .. وإذا بالسبل قد ضاقت بي إلا عن السد البراني، والمنيرة، والسيدة، وزين العابدين .. ” 

هكذا كان للأماكن تأثيرٌ كبيرٌ على يوسف السباعي، الذي ورث عن أبيه حب القراءة، والحس الأدبي، وفن الكتابة، وحَفظ رباعيات الخيام عن ظهر قلب، بعد أن قام والده الأديب محمد السباعي بترجمتها عن الإنجليزية، وكان دائم الكتابة للمجلات التي ذاع سيطها في عصره، وعندما كان طالباً بالمدرسة الثانوية نُشرت له قصة بعنوان “تبَّت يدا أبي لهب وَتَب”، ومن بعدها انطلَق يملأ الدنيا كتابة. 



بين الحياة العكسرية والموهبة الأدبية 

تخرَّج السباعي في الكلية الحربية عام 1937 ، ثم عاد إلى الكلية عام 1942 ليصبح مدرساً لمادة التاريخ العسكري ، وتولي العديد من المناصب، منها تعيينه في عام 1952 مديراً للمتحف الحربي، وأثناء ذلك كانت مؤلفاته الأدبية تسير جنباً إلى جنب مع وظيفته العسكرية، واستطاع السباعي التأليف بين النقيضين، حتى أصبحا صنوَين لا يفترقان، يخدم كلٌ منهما الآخر، وقد ساعدته دراسته العسكرية في تكوين حبكات روائية مقنِعة لعدد من رواياته، مثل ابتسامة على شفتيه، وطريق العودة، والعمر لحظة. 

وكان السباعي لا يتوانى عن جعل رواياته الأدبية ومقالاته الصحفية لعدد من الصحف التي تولى رئاسة تحريرها، مثل روزاليوسف، وآخر ساعة، ودار الهلال، والأهرام، منبراً للدفاع عن القضية الفلسطينية، وحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، وحقهم في استرداد الأرض المنكوبة، وفي رواية “ابتسامة على شفتيه” كتب في المقدمة يقول: ” إلى الشهيد الذي بذل روحه من أجل بعث الروح الفلسطينية .. والذي جعل من جسده الطاهر معبراً للعودة” ، وقال في أحداث الرواية على لسان البطل: ” القدس كالقاهرة .. كعمّان .. كدمشق .. كبغداد.. إننا نؤدي واجبنا في كل مكان .. إن القدس عزيزة على المصري.. معزّة القاهرة للفلسطيني ولكل عربي ..” 

شهيد القضية الفلسطينية 

وفي السنوات الأخيرة من حياته، كان دائم الحِلِّ والترحال، مشاركاً في العديد من المحافل الدولية، التي تعني في المقام الأول بالقضية الفلسطينية، وفي عام 1978 رأس الوفد المصري المشارك في مؤتمر التضامن الأفروأسيوي السادس، في العاصمة القبرصية “نيقوسيّا” وفي صباح السبت الموافق 18 فبراير/شباط، وتحديداً في الحادية عشرة صباحاً، نزل من غرفته بالفندق، وقبل دخوله إلى قاعة المؤتمر، وأثناء وقوفه أمام منفذ بيع الصحف والمجلات، أطلق عليه اثنان من أعضاء منظمة أبو نضال ثلاث رصاصات، أردته قتيلاً. وكان السباعي موضوعاً على رأس قائمة اغتيالات أعدَّتها المنظمة، إلى جانب أسماء أخرى، رداً على قيامه بمرافقة الرئيس أنور السادات إلى الكنيست الإسرائيلي في 16 نوفمبر/تشرين الثاني عام1977 ، ولم يمنعه ذلك من إصراره على السفر كأمين عام لمنظمة تضامن الشعوب الأفروأسيوية، رغم تحذيرات أهله وأصدقائه له بعدم السفر. 
وخلال فيلمٍ وثائقيٍ أعدَّته قناة الجزيرة عن الأديب الشهيد، بعنوان: “بلا عودة – اغتيال الأديب يوسف السباعي و تدخل قوات الصاعقة المصرية في قبرص” أكَّد كمال بهاء الدين، وكيل أول وزارة الثقافة الأسبق، أنه عندما ذهب مع الوفد إلى الفندق في نيقوسيّا وجد المداخل والمخارج غير مؤمَّنة، وبوابات الفندق تفتقر إلى الحراسة الكافية، وإجراءات التأمين لا تتناسب مع ظروف المؤتمر وحساسية مناصب الأعضاء المشاركين فيه، بالرغم من قيام بعض المنظمات المتطرفة في فلسطين في تلك الأثناء ببث رسائل التهديد والتوعُّد لكل من رافق السادات في رحلته، وأنهم لا يستثنون أحداً. 
ونتيجة لذلك القصور في جوانب التأمين، استطاع اثنان من أعضاء منظمة أبو نضال التسلل ودخول الفندق كسائحَين، وعلى مقربة من الأديب يوسف السباعي، استطاعا إطلاق ثلاث رصاصات عليه، وبعد أن أردَوه قتيلاً، احتجزا نحو ثلاثين من أعضاء المؤتمر في كافيتريا الفندق كرهائن، بعد أن هددوهم بالسلاح وقنبلة يدوية، وهددوا بقتلهم إذا لم يتم تجهيز طائرة تقلهم إلى خارج الأراضي القبرصية، ثم استجابت السُلطات القبرصية لطلبات الخاطِفَين، وقامت بتوفير سيارة تتجه بهم إلى مطار لارنكا، تحمل على متنها الخاطفَين وأحد عشر رهينة، من بينهم أربعة رهائن من المصريين. 
حاولَت الطائرة الهبوط في عدد من الدول العربية، ولم تجد إلا الرفض في كل دولة تتجه إليها، وبعد رحلة طويلة شملت ليبيا، وسوريا، واليمن، لم تستطع الهبوط في أي من مطاراتها، لم يكن مِن حلٍ سوى الهبوط في جيبوتي، بعد أن استهلَكَت الطائرة كل الوقود وأوشكَت على السقوط، ومن مطار جيبوتي وبعد مفاوضات كثيرة بين الخاطفين وعدد من الدول، وأخيراً تم السماح للطائرة بالعودة إلى لارنكا بعد أن تم تزويدها بالوقود. 
شهداء مصريون فوق الأراضي القبرصية 

وفي اليوم التالي قام الرئيس السادات بإرسال طائرة عسكرية مصرية، على متنها مجموعة من رجال الصاعقة، بغرض التفاوض مع الخاطفَين وتحرير الرهائن المحتجزين، مما أغضب السلطات القبرصية، التي اعتبرت ذلك تدخلاً سافراً في سيادتها، وطلب رئيس جمهورية قبرص، كابريانو، من السفير المصري بقبرص آنذاك، حسن شاش، ألا تقوم فرقة الصاعقة بأي إجراء وألا تهبط من الطائرة إلا بإذن وموافقة السُلطات القبرصية. 
ثم توصّل زعيم الحزب الاشتراكي القبرصي فاسوس ليساريدس إلى اتفاق مع الخاطفين بأن يسمح لهم بالسفر إلى اليونان، ويقوم بمنحهم جوازَين للسفر، بشرط تسليم الرهائن دون أن يمسسهم مكروه. 
وبعد خمسُ دقائق على ذلك الإتفاق فوجيء الجميع بسيارة چيب تخرج من الطائرة المصرية، وتقوم فرقة من القوات المصرية بها بهجوم على طائرة المختطفين، وسرعان ما تم تبادل إطلاق النيران بين قوات الصاعقة المصرية وقوات الحزب الوطني القبرصي، أسفرت عن تدمير الطائرة المصرية، وقتل خمسة عشر من رجال قوات الصاعقة المصريين، ونحو ثمانين مصاب من الطرفين، وانتهت المعركة التي استمرت قُرابة الخمسين دقيقة، بإلقاء القبض على من تبقى من القوات المصرية. 
وبعد عدة مفاوضات بين الطرفين، تمكَّـنَت قوات الصاعقة المصرية التي تم إلقاء القبض عليها، من العودة إلى مصر بكامل أسلحتها مع الرهائن بعد تحريرهم، وفي غضون دقائق من إقلاع الطائرة إلى مصر، أصدر الرئيس السادات قراراً بقطع العلاقات الدبلوماسية مع قبرص، وقام بسحب اعترافه بالرئيس القبرصي كابريانو، وطلب إلى البعثة الدبلوماسية القبرصية بالقاهرة، ترك الأراضي المصرية، في ردِّ فعلٍ غاضب لمقتل الجنود المصريين، وبعد تكريم الجنود الناجين ومنحهم الأوسمة، أُقيمت جنازة شعبية هائلة لضحايا المعركة. 
وماذا بعد .. ؟ 

وفي التاسع عشر من مارس/آذار عام 1978بدأت محاكمة القاتلَين زايد حسين علي، وسمير خضير، أمام المحكمة القبرصية، في حضور عدد من المراقبين المصريين، على رأسهم عادلي حسين، المدَّعي العام آنذاك. 
وفي الرابع عشر من أبريل/نسيان، من نفس العام قضت المحكمة بعقوبة الإعدام على كلٍ من القاتلَين، وبعد ذلك بأشهر قليلة، أصدر الرئيس القبرصي قراراً رئاسياً بتخفيف الحكم إلى السجن مدى الحياة، لأسباب قيل أنها تتعلق بالأمن العام القبرصي. 
وبعد إعلان السُلطات القبرصية أنها قد تلقَّت تهديدات من منظمات إرهابية عربية، بالقيام بعمليات فوق أراضيها، قامت بترحيل القاتلَين، ضارِبة العقوبة الواقعة عليهما بعرضِ الحائط! بعد ما قاما به من قتلِ السباعي، واختطاف وترويع الرهائن ممن كانوا معه. 
وهكذا كان جزاء الفارس الذي سخَّر قلمه للدفاع عن قضية كان يؤمن بها إيماناً راسخاً، وبعد استشهاد السباعي، لم تَمُت كتاباته، ومازال إنجازه الأدبي قائماً، وهكذا يذهب المُفَكِّر، ولا ترحل الفكرة. وأعمال السباعي لم تَكُن محض أفكار، بل كانت قصور راسخة. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *