بقلم..أحمد عدلي تمام

  تصوّف الأستاذ الإمام

كان الاستاذ الإمام محمد عبده مصلحا ومجددا قلّما يجود الزمان بمثله ، وكلنا
يعرف تاريخ الرجل في الإصلاح الديني ، لكن القليل من يعلم أنه كان يري التصوف
سبيلا للإصلاح الديني فضلا عن التهذيب النفسي والنقاء القلبي .


بدايته مع التصوف :

كانت اقدارالله سبيله إلي سلوك طريق التصوف ، فحرارة الشمس التي منعته من السفر
إلي طنطا هي من جعلته يقابل خال والده الشيخ درويش الذي مكث معه خمسة عشر يوما قال
أنها غيّرت حياته كلها ، حيث قرأ عليه الشيخ درويش -الذي كان علي اتصال بالزاوية
السنوسية- بعضا من الرسائل الصوفية  وحكم
التصوف التي كانت سببا في تهذيب سلوكه وإخراجه من سجن الجهل إلي فضاء الحكمة
والمعرفة ، ومن قيود التقليد إلي أخلاق التوحيد.
كان الشيخ درويش يرى أن المهمة الأولي للمريد هي النصح وإرشاد الناس ، لكن لا
يستقر له هذا الأمر إلا بعد أخذ فترة من الاعتزال حتى يقطع الطريق علي المعاشرين
الذين يضللون المريدين في طريقهم ، فأوصاه باعتزال الناس ، بل وحبب الاعتزال إليه
لما رأى فيه من فائدة عظيمة يفسهدها الاختلا بالناس ..فكان الشيخ درويش بذلك أول
من دفعه إلي العلم وكان أيضا من أهم أسباب انخراطه في العمل مع الأفغاني بل وشجعه
علي تعلم ما جاء به الأفغاني من علوم كان يراها البعض مزعزعةً للعقيدة الصحيحة
قاذفةً للضلالات في قلوب الناس ، كما وجهه أيضا نحو الإرشاد الديني والاحتكاك
بالناس ونصحهم وهذا ما مهّد الطريق للأفغاني كي يسير سويا بجانب الأستاذ الإمام
الذي وافقه في كثير من الأفكار .
 وبعد نصائح الشيخ درويش ، ذهب الإمام للدراسة
بالأزهر ، وقتها “كان هناك حزبان : شرعي محافظ ، وصوفي أقل محافظة من
الشرعيين .. حضر الإمام دروس الحزبين ، لكنه انتمى للحزب الصوفي”
(1)

حال الأستاذ الإمام مع التصوف :

كان للتصوف منزلة كبيرة عند الأستاذ الإمام فكانت الصوفية قرة عينه و مفتاح سعادته
ولكننا نستطيع أن نعلم عن تلك الصوفية أنها شيء غير الجذاب
والتواكل، وغيرالكسل والزهد في أعمال المعيشة؛ لأن أستاذه الذي هداه إلى ذلك الكتاب
كان فلَّاحًا يعمل
في الزراعة، وكان يحضه على تعليم الحساب والهندسة والمنطق
وعلوم الحياة، وينهاه
عن العزلة واجتناب الناس، ولو كانوا على غير ما يرضاه من
خُلُق وسيرة؛ لأنهم بذلك
أحوج إلى الهداية ومصاحبة العقلاء.(2) ، فالتصوف في نظر الإمام هو السبب
الرئيسي في تهذيب وإصلاح النفوس ، فقال أنه “لم يوجد أمة من الأمم يُضاهي
الصوفية في علم الأخلاق وتربية النفوس ، وبضعف هذا الطبقة وزوالها فقدنا
الدين”
(3) ، فالإمام يُعد التصوف علي أنه نعمة من النعم التي يمنّ الله علي الإنسان
بها فقال “كل ما أنا فيه من نعمة في ديني ، فسببها التصوف”
(4) . لكن رغم ذلك ، كان تصوفه تصوفا خفيّا ،
لأنه كان يرى وجوب كتمان ما آتاه الله للعبد من نعمة التصوف ، فلم يعلم بتصوفه أحد
من تلاميذه وأصدقائه .. و”كان الاستاذ الإمام مسلما صادقا في اسلامه وبلغ من
ايمانه ورسوخ تقواه انه كان ينفر من كل تظاهر او مباهاة في شئون الدين ، حتي ظن
بعض السطحيين أنه لم يكن دقيقا في أداء فروضه الدينية”
(5)  وكان “لكثرة انهماكه في الذكر والفكر
والنظر في كتب التصوف ، يخرج عن حسه ويرُح بنفسه في عالم الخيال والمثال فيناجي
أرواح السابقين”.
(6)
ولمّا اجتمع التصوف و حب الإصلاح في قلب الرجل ، وكان الاصلاح الديني هو
الشغل الشاغل له ، كان يرى أن التصوف هو سبيله للإصلاح ، فقال أنه في حالة عجزه عن
إصلاح الأزهر، فإنه سوف ينتقي عددا من الطلاب ويربيهم تربية صوفية ليكونوا خلفا له
في خدمة الدين ، فهو بذلك سار علي درب السابقين من أئمة الصوفية فقد “كان غرض
صوفية المسلمين تربية المريدين بالعلم والعمل الذي غايته أن يكون الدين وجدانا في
أنفسهم تصدر عنه الأعمال الصالحة،ولا تؤثر فيه الشبهات العارضة”.
(7)

علاقة التصوف بانخراطه مع الأفغاني :

أُعجِب الإمام بأفكار السيد جمال الدين الأفغاني عند أول لقاء بينهما ، حيث
سأله الأفغاني عن تفسير بعض آيات القرآن وعن التصوف – حيث كان الأفغاني يميل إلي
مذهب السادة الصوفية-  وهذا ما سَرّ الإمام
كثيرا لأن “التصوف والتفسير هما قرة عينه ومفتاح سعادته” (8) ، و توطدت العلاقة بين المعلم والتلميذ الذي
أصبح أستاذا فيما بعد ، حيث نقله الأفغاني من التصوف إلي الفلسفة بعد أن جاراه
زمنا في التصوف ، حيث أن الأفغاني كان له نظرة في هذا الأمر فقد كان يري
“الفيلسوف إن لبس الخشن ، وأطال المسبحة ، ولزم المسجد ، فهو صوفي .. وإن جلس
في قهوة وشرب الشيشة فهو فيلسوف”
(9) ، فانتقل الاستاذ الي طريق الفلسفة وكانت
أول آثار الإمام هي مقدمة لرسالة الواردات الفلسفية التي أملاها الأفغاني ، ثم بدأ
بتدريس المنطق والفلسفة في الأزهر وذلك بعد حصوله علي العالمية بعد عناء شديد ،
وذلك لسخط مشايخه الذين اجتمعوا علي منعه من الحصول علي العالمية ، وذلك لتبنّيه
أفكار الأفغاني ومجاراته في دراسة العلوم التي في نظرهم مزعزعة للعقائد الصحيحة.
ثم استمر العمل بينهما متجاوزا الفلسفة ، فاشتغلا بالسياسة ، حيث “كانت حركة
الأفغاني سببا من أسباب الثورة العرابية ، وكانت أيضا سببا من أسباب الثورة
المهدية”
(10) في السودان ، ولقد نشأ المهدي نشأة صوفية خالصة ، و استقى أفكاره من
كتابات الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي وبالأخص فتوحاته المكية التي كانت من أهم
الكتب بالنسبة له ، و”لقد فكر السيد جمال الدين الأفغاني في إرسال الشيخ محمد
عبده إلي السودان ليعمل مع المهدي، وحُقِقَ مع الشيخ محمد عبده بتهمة جمع الأسحلة
وإرسالها إلي السودان”
(11) .
وهكذا تبدّلت حياة الأستاذ الإمام فأصبح قائدا في ساحة العمل و ورائدا في ميدان
السياسة والإصلاح والتربية ، وقد “كان الفضل للسيد جمال الدين في ذلك الانسجام
النادر بين صوفية كلها باطنية وبين حاجة ملحة إلي العمل”
(12).






قوله في انحدار حال التصوف :

 الصوفية والفقهاء ، كانوا علي طرفي
نقيض .. فالصوفية اهتموا ببواطن النفس من تزكية وكبح لجماح النفس وتطهير للقلوب
وتنظيفها من أدرانها التي لحقت بها .. أما الفقهاء فاهتموا بمظاهر الدين كعلوم
الطهارة والعبادات ، واندرجوا في السلك القضائي والسياسي ، ولم يكن الفقهاء علي
علم بالتصوف وتخبطت أفكارهم لأنهم “لبعدهم عن التصوف –الذي هو الدين- جهلوا
سياسة وقتهم ، ولجهلهم بالسياسة لم يعرفوا كيف يمكن تنفيذ الأحكام الشرعية ، ولم
يتمكنوا من حعل الأمراء والحكام يلتزمون هذا الحكم وينفذونه ، ولهذا ضاع الدين
والسياسة”
(13) ، وهذ يُظهر تلازم الفقه والتصوف ، وضعف كل منهما إذا استغنى بأحدهما عن
الآخر ، وهذا ما يقرّه الإمام الجنيد سيد الطائفة إذ يقول “الفقه من غير تصوف
جسد بلا روح  والميت لا عبرة به ، والتصوف
من غير فقه أمر لا يصلح أن يكون بابا للدخول إلي الحقيقة من حيث لا مدخل لها إلا
من باب الشريعة وإلا فهي زندقة” ..

ولم يرض الفقهاء عن أفكار أهل التصوف ، فدارت معارك شعواء بين الفريقين ، حيث كان
الفقهاء يتحاملون علي المتصوفة ، ووقفت الدولة في صف الفقهاء ، فتم اضطهاد الصوفية
وتشريدهم والتنكيل بهم ، مما أدي إلي تخفّيهم وظهورهم بغيرما هم عليه في الباطن –وهو
علي غير سبيل التصوف- ، فقلدهم العامة ، فكان ذلك كالشمس التي أذابت جليد التصوف
حتي استحال ماء تبخر في نهاية المطاف ولم يبق منه إلا القليل من تعاليم التصوف
النقية من أدران الجهل. 

موقف الأستاذ الإمام من صوفية عصره : 

كان الاستاذ صوفيا علي الطريقة الشاذلية ، لكن رغم حبه للتصوف وأئمته لم يكن
يتبع اتباعا أعمى ، بل كان يرى أن أئمة التصوف هم أناس كغيرهم يصيبون ويخطئون ولا
يُضفي علي أي منهم نوعا من القداسة والعصمة ، وأن آرائهم قابلة للنقاش
  بل كان يرى كثيرا من الآراء المخالفة لهم وينكرعلي
بعضهم القول بالحلول والاتحاد فقد قال “لو كنت سلطانا لضربت عنق من يقول
به”
(14) ، وقال أن بعضا من كتبهم قد تم التدليس فيها والكذب علي مؤلفيها ، بل إن
هذه الكتب لا يحل النظر فيها إلا لأهلها لما بها من رموز واصطلاحات لا يعلمها حق
العلم الا أهل هذه الطرق ، لأن ظواهر هذه الكلمات تورد موارد الردى ، فقال
“لما كنت رئيس المطبوعات أمرت بمنع طبع الفتوحات المكية – للشيخ الاكبر محي
الدين بن عربي- لأن أمثال هذه الكتب لا يحل النظر فيها إلا لأهلها”
(15) .

كما كان الاستاذ يرى أنه لا بأس أن يكون لك شيخا مرشدا يأخذ بيدك ويرشدك إلي الخير
ويعينك علي مرضاة الله وطاعته ، شخص تلتمس فيه العلم والعمل بما يعلم وحسن الخلق
.. لكن شرط اختياره هو ألا يتقاضى أجرا علي ارشاد المريد ونصحه أو بتعبير
الإمام” أن لا يكون دين هذا الرجل دكانه، فإن من يتقاضى أجرا علي هداية الناس
بأنه لص اتخذ الدين حرفة وعملا”
(16) ، لكن قبل هذا كله يجب علي المريد أن يعمل
باخلاص بما هو معلوم عنده من أمور الدين المحكمات ، وإن تعذر عليه معرفة
المتشابهات ، فليلتمس معرفتها ممن هو أكثر منه علما.

كان هذا حال أستاذنا الإمام ، وكان هذا معنى التصوف عنده ، التصوف الذي هو نعمة
أنعم الله بها عليه ، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ، لهذا نؤيد قول العقاد عندما قال
ولقد تصوَّف مصلحنا العظيم زمنٍّا في صباه،
ولا نخاله ابتعد من طريق المتصوفة
إلى ختام حياته”(17).


مصادر :

(1) الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده ج1 – دراسة وتحقيق د.محمد عمارة

(2) عبقري الإصلاح الإمام محمد عبده – تأليف عباس محمود العقاد

(3) الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده ج3 – دراسة وتحقيق د.محمد عمارة

(4) المصدر السابق

(5) رواد الوعي الإنساني في الشرق الإسلامي – 
تأليف د.عثمان أمين

(6) تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده ج1 – تأليف الشيخ محمد رشيد رضا

(7) الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده ج3 – دراسة وتحقيق د.محمد عمارة

(8) تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده ج1 – تأليف الشيخ محمد رشيد رضا

(9) الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده ج1 – دراسة وتحقيق د.محمد عمارة

(10) الأصول الفكرية لحركة المهدي السوداني ودعوته – تأليف د.عبدالودود شلبي

(11) المصدر السابق

(12) رواد الوعي الإنساني في الشرق الإسلامي – 
تأليف د.عثمان أمين

(13) الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده ج3 – دراسة وتحقيق د.محمد عمارة

(14) المصدر السابق

(15) المصدر السابق

(16) المصدر السابق

(17) عبقري الإصلاح الإمام محمد عبده – تأليف عباس محمود العقاد


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *