ترى ما ماهية ذلك الشعور اللذيذ الذي يجذبنا نحو شيء معين، شخص معين، أمر معين؟ فيجعلنا نختاره دون سواه، وهذا الاختيار يكون نابعا عن ميل حقيقي لذلك الشيء، أو الشخص أو الأمر؟
إنه الحب، ذلك الإحساس النبيل الذي يتخللنا،، فنشعر معه بالفرح، بالرضى، وبالروح يسكب في أرجاء النفس كلها وتزهر الدنيا بأعيننا، فلا نرى سوى ورود يلبسها الوجود والوجدان ومعها نشتم عبير الزهر والنسائم العليلة التي تأتي من كل مكان.
فالحب ما هو إلا تعبير فطري عفوي لا إرادي عن رغبتنا الجامحة في الأشخاص، في الأشياء، في الأمور، في الطبيعة، وفي غيرها مما نميل إليه.
فحبك لأمك مثلا يكتسب صبغة راقية في سلم الشعور وترافقك جنود الإحساس بالعطف والحنان والألفة، بل أكثر من ذلك فهي تحمل معها معنى”الحماية”، كما ستتقلّد أنت بالمقابل منصب “المنقذ” لهذه الأم الحبيبة التي تمثل أسمى ما في هذا الوجود، ومن هذا المنطلق اللاشعوري الخالد تنبت مشاعر أصيلة وهي تستقي منابعها الأولى من هذا الحب “الأمومي” ونقصد به كل حب موجه للمرأة، فرغم أن حب “شريكة العمر” يختلف في ظاهره كثيرا عن “حب الأم”، إلا أنه يكتسي بصبغته في نواح عديدة خاصة في صفة “الإنقاذ”، حيث يعتبر الرجل “حام ” لزوجته، وفي المقابل سيتجلى هذ ا الشعور أكثر عندما نجد تطبيقا عمليا يجسد مقولة ” الرجل ما هو إلا طفل كبير”، ومن ناحية أخرى فحب المرأة للرجل “الزوج”، لا يختلف عن كونه بحثا عن “عرين أبوي” يوفر لها الحماية والقوت في أبسط صوره، لهذا نلاحظ أن صفات الرجولة من “الشجاعة وقوة الرأي وسداده” هي أول ما يجلب المرأة لارتباطها بهذا “الحامي”. فالرجل إذن يلعب دور “المنقذ” و”الطفل الكبير ” في آن واحد، والمرأة تحتاج إلى “الحماية ” وتمثل في نفس الوقت دور “الأم الحنون ” وإن اختلفت الصور و المسمّيات.
وكما نعلم أنه من البديهي أن “الحب” هو ميل غريزي وفطري لدى كل طفل تجاه والديه، ويكبر معه هذا الميل حتى يفارقهما إلى القبر إما هو أو هما، كما نرصد أشكالا أخرى للحب كحب الأصدقاء والرفاق والإخوة، ويكون المعيار في ذلك غالبا هو انتماء لنفس المذهب أو تبني ذات الأفكار، إذ قلما نجد صحبة تجمع فئة تتنافر في آرائها ومذاهبها كليا لأن الأثر يقول ” الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف “.
ويتسع مجال الحب ليشمل كل ما في هذا الوجود من أفكار ومذاهب وديانات وألوان وبلدان وغيرها، حيث يبقى الميل الشديد والانجذاب العفوي هما المعياران لهذا الحب ” المخلص”.
أما ذلك “النفور” الذي يربكنا إذا ما فكرنا بأمر ما، بشخص ما، ويدفعنا بقوة غريبة إلى عدم التفكير بذلك الأمر أو الشخص أو الشيء، أو على الأقل يمنعنا من “التفكير الإيجابي” تجاهه هو ما ندعوه عادة ب “البغض”.
فالبغض كما أسلفنا هو قوة سلبية محملة بشحنات عاطفية تندفع بالاتجاه المعاكس لما نبغضه وتجعل قلوبنا تنقبض لمجرد التفكير فيه، لما تصطبغ به مشاعرنا حينها من”السوداوية والعدائية”، فتمثل موقفا يشبه موقف البستاني من الأعشاب الضارة التي يجب أن يبعدها عن حديقته حتى يكتب لهذه الزهور أن تنمو في راحة وسلام، كما أنه سينزع عنها الوجه المشوه لجمالها، كي تبقى أنيقة ترفرف في عالم العذوبة والجمال، ولهذا السبب لا نلمس أية مشاعر للرحمة لدى هذا البستاني تجاه هذه الأعشاب الضارة والطفيليات والأشواك.
ونحن ندرك جيدا أن الكون مليء بما نمقته من أشخاص ومن سلوكيات ومواقف تنبئ عن دناءة النفس وحقارتها، وهو مالا يجتمع أبدا مع المواقف الرجولية والشجاعة ومواقف الكرم والعفة والطهارة، والله تعالى يقول:”وما جعلنا لرجل من قلبين في جوفه”، كما أن النفس البشرية تميل إلى الأمن وتمقت الخوف غير أنها تصبر على بغض ما تبغضه رغبة منها فيما هو أعلى درجة لكرم النفس في الدنيا ولعظم الأجر في الآخرة ، فهي تصبر على الاختلاط بذوي النفوس الدنيئة والهمم المتدنية ، وتصبر على الفقر والحرمان وتصبر على الحروب وما تثيره فيها من خوف ورعب كما تصبر على فراق الأحبة وغيرها ، إذن فالصبر هو الخيط الرفيع والمتين في آن واحد الذي يربط مشاعر الحب والبغض في تداخل إيجابي يعكس شرف النفس وعلو همتها ويسحبها طواعية نحو سلم الارتقاء في مصاف المجد الذي لن يبنى إلا على نفس شريفة تتمتع بهمة عالية في محبة الفضائل وبغض الرذائل والصبر على المكروه من أجل تحصيل محبوب أعلى.
تأليف جميلة ميهوبي