أعشق رائحة الورق الممزوجة بأحبار الطباعة، وملمسه الخشن. ما زلت رغم كل التكنولوجيا والتقدم والهواتف التي لا تفارق أيدينا، أحن للسباحة بين الكتب على أرفف المكتباتِ.
أعيشُ ذلك الإحساس بالبهجة والنشوة، وأنا أتأملُ الأغلفةَ الملونةَ، والأحرف التي تعلو هامات الصفحات، تسحبك خارج الزمان والمكان، تلقي بك بأحضانِ الخيال وتراقصُك على نغمات الكلمات بين أذرع السطور، وتدور بك مع خطوات الأبطال.
يمكنني أن أبقى كذلك لساعات ولا أمَل أو حتى أشعر بمرور الوقت، الذي عادة ما يسرقني وأنا في عالمي المسحور.
التقت أيدينا عند نفس الكتاب، إنه هو، نعم هو، من ظللت أنكر وجوده بمكان ما بهذا العالم، وأقنع نفسي أنه لم يكن له وجود من الأصل.
أردد كل يوم من الشهور الماضية، أنه مجرد أحد شخوص كتبي الكثيرة المكدسة إلي جوار سريري، وقد تجرأ وغادر السطور ليكون خيال إنسان، يتجول بحياتي وينساب داخل روحي، يعبث بمشاعري ويبعثر أيامي على رصيف انتظار مروره، ليخطف جزءًا مني ويعود من حيث أتى يسكن إحدى الحكايات.
كطفل يبكي حضن أمه، أتاني يحبو علي كفي، بخفقة قلب مكسور، يبحث بين أنفاسي عن دفء أنفاسها، عن ملامح روحها، عن ذلك الحب الغامر الغافر ليغرق فيه.
يختبئ من برودة العالم بدونها، ودنيا رغم رحبها، أضيق من لحظة يلقي فيها برأسه علي صدرها، يتخففُ من حمولهِ ويشاركها همومَه الكثيرةَ، ويريح عاتقه المثقل بمسؤولية كل من حوله، ولا يجد بينهم من يحمل عنه ولو القليل.
بسطت القلب يحتضنه، يهدهد الطفل الحزين، التائه داخله، يكون له مرسي حين تضطرب سفينته، كلمة أمان في وجه طوفان الازدحام، واحة يهرب إليها لحظات، يلتقط أنفاسه، ويسكن إلي طيف أم تسكنه، يراه بروحي السابحة بروحها إليه. كلما آلمني غفرت، كلما زاد في أنانيته أعطيت، كلما غاب عاد ليجدني، حتى ذهب فانتظرت وانتظرت رافضة الاعتراف أنه غادر، رحل ولن يعود.
عشرات المرات وقفت بشرفتي أنظر الطريق الممتد امامي، بعقلي أعلم علم اليقين أنك لن تمر من هنا ولو صدفة، بقلبي أنتظر أن ألمحك مارًا ولو من بعيد.
أو تعلم حجمَ الألمِ الذِي سكنني في كل مرة يعاود قلبي الانكسار لأنك لم تمر، في كل مرة أسحقُ قلبي المكسور تحت قدمي لأخرس صرخاته، وألوذ بالصمم كي لا أسمعها فأضعف؟ أو تعلم حجم الجنون في أن يرفض عقلك قبول حقيقة تدركها تماما، وتراها ماثلة أمام عينيك، لكنه يغلق دروبه في وجهها، ويشارف الجنون بل يختار الجنون كأنه أهون من التسليم بها؟ أو تعلم حجم الوجع في أن تكون مهانًا ومباعًا لكنك ما زلت رغمًا عنك شاريًا، رغمًا عنك تحن وتشتاق.
كنت أطل كل يوم مرات ومرات علي صورته المعلقة بجدار صفحة حسابه بمواقع التواصل الاجتماعي، فأنا لا أملك سوى ذلك، يقتلني شوقي إليه، وسؤال يتردد داخلي يكاد يذهب عقلي، لماذا؟ لماذا الغدر؟ لماذا الرحيل دون وداع؟ لماذا الإهانة والترك والخذلان؟ آلاف لماذا بلا جواب. أذهب إلي سريري فيجافيني النوم ويسرق الوجع ليلي، وتطاردني أشباح تساؤلاتي المرهقة التي تغلي بصدري.
ثم تحول الشوق واللهفة إلي ثورة ورفض وغضب، لكني كنت ما زلت لا أستطيع أن أمنع نفسي من الذهاب إلى صفحته، وتأمل صورته، وما زالت أسئلتي تضج برأسي وتفور بأرجاءِ روحي.
لم يكن غضبي منه بقدر غضبي من نفسي، أن قبلت من البداية تلك العلاقة المهينة، التي تسير في اتجاه واحد ينكر فيه الطرف الثاني أن لي عليه حقوقًا، مساوية لحقه علي.
لم يكن حزنًا عليه بقدر ما كان حزنًا على كل ما اغتصب مني بغير حق، على كل نظرة احتضنته بها، كل لمسة ارتجف لها قلبي وتوحدت معه فيها، على كل إحساس عشته معه وله، على كل لحظة قلقت عليه وانخلع قلبي لألمه، على كل ذكرى حلوة بيننا مررها ثم سرقها ورحل.
وذات صباح، وكعادتي التي أصبحت يومية بمجرد أن أفتح عيني، أبحث عنه، وجدتني أمام صورته لا أشعر بشيء علي الإطلاق، لا حب ولا كره لا شوق ولا غضب، فقط لا شيء. أصبحت مشاعري محايدة تمامًا، غير مبالية بتلك الصورة التي تحمل ملامح شخصٍ غريبٍ عنى، وكأننا لم نلتقِ يومًا، فقد سقط تاريخه وذكرياته من جدران القلب والعقل، مات بداخلي وأقمت مراسم دفنه دون أن أعي.
لم يعد سوى مجرد اسم ضمن آلاف الأسماء علي حائطي، والتي لا أعرف أصحابها، ولا أتذكرها حين أغلق هاتفي.
أطلت النظر لأتأكد أني أراه، أنه هو الواقف يفصل بيننا مجرد كتاب تعانقه أيدينا، يبادلني نظرات باردة صامتة، أشحت بوجهي الخالي من أي تعبير، وابتعدت.
عُدنا غُرَباء.